This post is also available in: English (الإنجليزية) Español (الأسبانية) Français (الفرنسية)
العراق يحتاج لدستور جديد. بل إن دلائل فشل الدولة، الهول القانون ودمار البلاد إنما يعود أساساً لدستور 2005 المجرم، والأصوات تتعالى تباعا (Alnasir, 2021; Cordesman & Molot, 2019; Jayamaha وآخرون, 2017; Underhill, 2014). بحلول 2023، جراح هذا المريض ستبلغ سن الرشد، ولا مفر من الإصرار على فشل هذا الدستور وحتمية الحاجة لنظام جديد. إنما المشاكل المتفاقمة لا تعني فقد الفساد السياسي، فقدان السلطة، فقدان الأمل الذي صار عاهة مزمنة لهوية واسم العراق، ولا حتى موجات الهجرة الناضبة، إنما هي الآن مسؤولية دُولية لإيجاد حل لما تسببت بها من دمار هذا البلد. بل والمشكلة الآن أكبر من كل ما تقدم، فإن ما تجرّه مشاكل العراق ستصير أثاره على العالم بأسره، ذاك أن العراق يمتلك حجماً لا بأس به من الاحتياطي النفطي، وحجم صادراته اليومي الحالي وصلت على ثلاث ملايين برميل يومياً، أي أن مشاكل العراق هذه، مواكبة مع ما يجري في أوكرانيا وحصار روسيا، قادرة على تدمير المنظومة الاقتصادية العالمية بين ليلة وضحاها. لكن مشاكل العراق الدستورية لهي على شفا حفرة في أن تجر لصراع دُولي، ليس ذا طابع إقليمي، إنما لا نهاية لآثاره. فمنذ اتخاذ ما سيمي مجازاً، بالدستور العراقي، لم يطفق أن يُخلّف خمس ملايين لاجئ عراقي، هدر دماء وتطهير عرقي ظالم إبان 2006-2009 لأكثر من مليون عراقي، ومن ثم ما صار إليه ظهور الدولة الإسلامية المزعومة سنة 2013 وما خلفت من مليون ضحية أخرى، وآخرون نازحين داخل وخارج العراق، وما لا نهاية له من القلاقل ليس فقط داخل العراق، إنما في الشرق الأوسط كله (Filkins, 2014). بل والمفارقة أن عباقرة الدراسات المزعومة بالاستراتيجية في المؤسسات الغربية ما زالوا مشغولين في البحث عن سبل مقارعة الدولة الإسلامي والتطرف الشعبي، ومازال في فشلهم المطبق بغير جدوى، بل لم بفكر أي عبقري منهم ما كان الحال إن لم يكن لهذا التطرف أن ينشب، وما أسباب نشوبه التي ما هي إلا حاصل تحصيل لمخططاتهم الفاشلة التي أشاروا بها على حكوماتهم وبقيادتهم لهذه السياسات ذريعة الفشل في العراق. التسمية مطلقة أكانت ألف أم باء، لم يعد من الممكن بمكان الاستمرار بتخبئة فيل الفشل خلف قضيب شجرة، فالفشل صار ذريعا ماثلا أما الشمس، والمسؤول الرئيس عن هذه هي مؤسسات الدراسات الإستراتيجية الغربية الفاشلة هذه. فمشاكل الدستور العراقي الفاشل إنما كان السبب الرئيس والأساس لقيادة العراق لهذا العقم السياسي، بل وهي النتيجة المعقولة الوحيدة لهذا الفشل والعنف اللا منتهي. الحال ليس فقط كما عُرِف بإرهاب دولة وعنفها السياسي، إ`نما يرزح العراق تحت عنف وإرهاب دستوري بمعنى الكلمة. بالرغم من هذا لا يأبه أحد لهذا في الغرب، بل سيعني الأمر فقط عندما يصير لهذه الآهات بعد اقتصادي ذا تأثير على الاقتصاد الغربي لمصادر الطاقة العراقي من ثقل على الاقتصاد الغربي، ولما يمكن لطاقة العراق الإنتاجية بلوغه في السنوات القادم، فالعراق بحاجة طارئة لدستور حقيقي.
القانون عموماً، والدستور خصوصاً ما هو إلا مناظرة بين سواسية (Gargarella, 2021)، لكن التأريخ الدستوري العراقي على مداه لا يمثل وللأسف هذه الفكرة. فجم اللوائح الدستورية العراقية ما كانت إلا فرائض قسرية إستعمارية، أو إعلانات ثورية عسكرية. فلم يعرف التأريخ القانوني العراق مفهوم الدستور قط. أول دستور عرفه العراق، لسنة 1925، أُعِد في البرلمان البريطاني، بمعية مستشرقيه، وفُرض على الشعب العراقي إما بالموافقة عليه أو باستمرار الوصاية المباشرة، إي خيار بين نارين، وما كان إلا انتقالياً للخروج من مأزق آني. ذاك الدستور أطاح به انقلاب 1958 وما تلاه كل منهم بدستوره على شكل إعلان بطولي، وحتى احتلال 2003، عادت التجربة لما كانت عليه، لوائح بطولية، وإعلانات لم يناظرها أبناء العراق ولم يتساووا في مناقشتها. حيث أن العراق لم يع قط معنى، ولا مفهوم الدستور. الأدهى أن بالرغم من مرور قرابة قرن من الزمن على دستور 1925، دستور 2005 لم يكن إلا ثمرة زمرة من غير المتمرسين والمترجمين، حيث لم يتكلف الاحتلال حتى بالرجوع لرجال القانون الأمريكي المتمرسين، إنما على زمرة من الخريجين الجدد بغير تجربة ولا أدنى معرفة. بل ولفهم النص النهائي للدستور، مستحيل الاستيعاب لا بد من الرجوع للنص الإنجليزي الأكثر معقولية في الصياغة، فالنص الرسمي الذي فرض على جحافل الرعية العراقية بالتصويت عليه لا يمت بصلة صياغية للنص الإنجليزي، وهو ما يضيف مشكلة أخرى بديهية في فشل الترجمة وعدم مهنيتها، بل وللامتهان بالشعب العراقي جملة وتفصيلا.
لنترك على جنب جدليات شرعية ومشروعية ما سمي به ذاك النص، ولنستعرض مشاكل منطقية تفسيره، فمن يتحمل كاهل تفسير هذا النص إنما لهو عبقري في قدرة معايرته. فالنص مليئ بالأخطاء الإملائية التي تحول دون فهم مقاصده، الأمثلة الاعتباطية فق صياغته التي تنتهي بضرب الأمثلة ومن ثم بقول الخ. إنما تنزهت بنفسي عنه وعن شرحه لأن نص كهذا لا منطقية للاعتداد به كنص دستوري معنى المفهوم، وربما لابتعادي عن صب رهصات ما صار اليه مشروعي السابق (Alnasir, 2003)، وللعار الذي أصابني كيف أشرح للعالم كيف صار هذا النص لأن يكون دستوراً للعراق بعد كل ذاك العناء؟ لذا قررت التزام الصمت حتى لا يكون انتقادي ذا نبرة شخصية، ولا نابعاً من نزعية حاقدة فردية، لكن ما يجري في العراق منذ حينه، وها قد مرت السنين والآثار التي سيجرها هذا الدمار على العالم لم يعد ممكن السكوت عليه. فليس هذا بفضل دولة ولا إرهاب نظام فحسب، إنما هو فشل نص دستوري وإرهاب بالنص الدستوري ذاته، كحال الرايخ الثالث وما جلبه شميت لأوربا بدستوره. لذا فالعراق بحاجة مستعجلة لدستور حقيقي.
هي ليس مجرد مصائب، ولا كوارث إنما هي فواجع دستورية متفاقمة (Alnasir, 2021a)، بل والأدهى الآن ما خرجت به المحكمة العليا العراقية أواسط شهر شباط الماضي وما سيجره من مآسي على العراق والعالم في حكمها في قضية النفط، بل وربما العودة لرزوح العراق لاحتلال وحرب جديدة، هذه المرة مع تركيا. وكل هذه بسبب الفشل الدستوري الذريع ومنهجية صياغته المشينة.
المادة 111، مما يسمى بدستور العراق لسنة 2005 تنص على أن «النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات». فهذه المادة تترك غموضاً وتساؤلات أكثر من الإيضاحات، فما بال الموارد المعدنية الأخرى؟ هل أن النفط والغاز هما فقط ملك الشعب العراقي، والكبريت والفوسفات هم للجيران، أم للنهب، أم لمن؟ لكن الأدهى يرد في منطوق الفقرة الأولى من المادة 112 التي تقول بأن
تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وارداتها بشكلٍ منصفٍ يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدةٍ محددة للأقاليم المتضررة، والتي حرمت منها بصورةٍ مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.
المادة 112.1
سفاهة الصياغة في هذا النص لا حدود لها، فجم النص لا يحتوي إلا على فارزة واحدة فقط، وإنما لفهم الغاز هذه المادة لابد من الرجوع للنص الإنجليزي الأكثر وضوحاً ودقة في الصياغية والتي تقول:
The federal government, with the producing governorates and regional governments, shall undertake the management of oil and gas extracted from present fields, provided that it distributes its revenues in a fair manner in proportion to the population distribution in all parts of the country, specifying an allotment for a specified period for the damaged regions which were unjustly deprived of them by the former regime, and the regions that were damaged afterwards in a way that ensures balanced development in different areas of the country, and this shall be regulated by a law.
النص الإنجليزي الأصلي للمادة 112.1
بالرغم من هذا فهذا النص لا يُقر بأي إفادة، إنما بمشاكل ومبهمات 1) فحين تطرَّق للحقول الحالية لا ندري ما سبب الحصر بالحالية، أي في زمانه سنة 2005، وما يجب أن يكون مع الحقول المستقبلية؟ 2) ولا ندري ما سبب هذا الحصر اللفظي في النفط والغاز، وما سيكون مع الموارد الطبيعية، أو المعدنية الأخرى؟ 3) ولا هي مفهومة هذه الشراكة الإدارية مع الأقاليم إن كانت تنحصر فقط على الحقول الحالية، أم المستقبلية؟ 4) بل وما من معنى ولا من دلالة للأقاليم المتضررة، إيها، ولا كيفية هذا التقسيم، معياره، ومدة هذه المُغايرة أكانت على أساس سكاني، أم على أساس الضرر نفسه؟ 5) ومن ثم أن النص يشير غلى الأقاليم المتضررة ويهمل المحافظات، كما اعتاد بالإناطة بها في النصوص الأخرى فهل بهذا الإهمال قصد الاختزال؟ وما بال المحافظات غير المرتبطة بإقليم إذا؟ 6) بل وفوق كل هذا أن النص ينتهي بإناطة تنظيم أمر دستوري ومعايير هي أصلا مبهمة بقانون اعتيادي. فأي صانع دستوري هذا؟
قبل الاسترسال بالتعرُّض لهذه المهزلة، يجدر التعريج على الفقرة الثانية من هذه المادة الداهية والتي تقضي بأن:
تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مباديء السوق وتشجيع الاستثمار.
المادة 112.2
ناهيك عن الخطأ الإملائي الوارد، لكن النص الإنجليزي لهذه المادة يقول
The federal government, with the producing regional and governorate governments, shall together formulate the necessary strategic policies to develop the oil and gas wealth in a way that achieves the highest benefit to the Iraqi people using the most advanced techniques of the market principles and encouraging investment.
النص الإنجليزي للمادة 112.2
فما من دلالة على معنى هذه السياسات الإستراتيجية، وسبب ذكرها بالجمع لا المفرد، ولا كيفية صياغتها المشتركة مع الأقاليم والمحافظات بحيث أن الفقرة الآنفة من نفس المادة تقضي بإدارة مشتركة، وهذه برسم سياسات مشتركة، فهل أن هذه السياسيات المشركة منحصرة باتجاه أفقي أم عمودي؟ أي أنها من الدولة باتجاه الإقليم المعني، أم تداولية على طاولة حوار مشترك، ولا ما تقصد دلالة الإستراتيجية، وأعلى منفعة في اقتصاد السوق. معان مبهمة وطلاميس لا مغازي لها. بل وللانتهاء بهذه الأمثلة يجدر معايرتها مع المادة 115 والتي تقضي بالمصيبة الكارثية التالية:
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في حالة الخلاف بينهما.
المادة 115
ما من منطقية لا عقلية، ولا قانونية، ولا صياغية قادرة على استيعاب مهولة هذه المادة. بل ولا حتى نصها الإنجليزي التالي:
All powers not stipulated in the exclusive powers of the federal government belong to the authorities of the regions and governorates that are not organized in a region. With regard to other powers shared between the federal government and the regional government, priority shall be given to the law of the regions and governorates not organized in a region in case of dispute.
النص الإنجيزي للمادة 115
كيف يمكن لمشرع أن يقضي بهذا؟ كيف يمكن لدولة وسلطة أن يقوم بناء على هذه المنطقية؟ دولة بلا مرجعية؟ أولوية القرار فيها للفرع إذا ما اختلف مع الأصل؟ أي منطقية هذه؟ كيف يكمن لأي من فق الدولة من الوقوف فيما له وما عليه، إن لم تكن للدولة مرجعية، فكيف يكون قانون الفرع أولوية على قانون الدولة؟ كيف يمكن للمُشرِّع الوطني بالتشريع، وللإقليمي بمخالفته، فتصير الأولوية للمُخاِلف فوق قانون الأصل؟ ما من منطقية كهذه ولا حتى في دولة المافيا، فحتى المافيا لها هرم المرجعية وأولوية الأصل قبل الفرع؟ بل وكيف يمكن استيعاب سياق هذه المادة مع المواد الآنفة 111 و 112 بفرعيها؟ بل إن هذه المنطقية لا توجد حتى في المفهوم الكونفدرالي، إذا كانت الدولة تُشرِّع والأقاليم تُخالف، فما مغزى وجود الدولة إذا؟
الكارثة، بل الكوارث، بلفظ الجمع لا تنتهي عند نص الدستور وسفاهته الصياغية، إنما لما حط بها الحال في المؤتمن، بل المبتلى بالقيام على الدستور وشرحه، المحكمة الاتحادية العليا. ففي سياق هذه المتاهات، تعرضت المحكمة لقضية نفط الكوت سنة 2012، حيث أقرّ مجلس المحافظة منع صادرات نفط المحافظة لغيرها حتى سد احتياجات المحافظة من مشتقات النفط بموجب أحكام المواد 111 و 112.1 من الدستور المزعوم. فكان ذاك القرار محلَّ طعن الحكومة المركزية أمام المحكمة الاتحادية التي سرعان ما نظرت في القضية في غضون أسابيع بأن أفرت به في حكمها رقم 8/فدرالي/2012. المهولة الأكبر لم تكن في القرار المطعون به، ولا في سياقات النص الدستوري الأرعن إنما بما أقرته المحكمة في حكمها. فالمحكمة المُكلَّفة بالذود عن حرمة الدستور وسلطانه أقرّت بأن المادة 112.1 موقوفة على قانون يُنظم سياقاتها، وبما أن القانون لم يصدر بعد، فهذا يعني تعليق الحكم الدستوري لحين إصدار القانون التنظيمي. أي أن المحكمة الذائدة عن الدستور علّقت عمل الدستور وأوقفت أحامه. بل ناهيك أن في سياق مثل هذا في تفسيرها للمادة 140.2 بانقضاء أجل التكليف الدستوري بالتقادم. فأي خيانة من راع لسيادة الدستور تقوم عليها هذه المحكمة؟ فالرعونة صارت سباقاً بين مشرع الدستور، مطبقه وحتى القائم على حرمته، فالأحرى تغيير اسم العراق ليكون دولة الرعونة. فشيء أن يكون الدستور صنيعة جاهل، أو محتل، وأمر أخر أن تمتد الرعونة لمن كُلف بالذود عن حرمته. فإن أقرّت المحكمة بتعليق عمل الدستور، فأي غاية بقيت لوجود ذات المحكمة والدولة برمتها إذاً؟
بل أن المثال الآنف تكرر في سياقات تنظيم المحكمة نفسها، حيث تقضي المادة 93.6 في إدراجها لسياقات تخصصات المحكمة في «الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، وينظم ذلك بقانون». فهنا وبناء على فقه المحكمة ألحنيك في قضية نفط الكوت، الشرط الدستوري بالتنظيم التشريعي يعني التعليق، فما من صلاحية للمحكمة نفسها للفصل للاتهامات الموجهة ضد أفراد الحكومة. فحيث أن ما من قانون قد أُقرّ، فما لإفراد الحكومة لا من صلاحية للمحكمة للفصل في اتهاماتهم، بل وحتى أن تصرفاتهم ليست محل مسؤولية ولا مسائلة لعدم وجود قانون يُقر بمسؤوليتهم، فما من مسؤولية بأثر رجعي. المهولة الأكبر هنا جاءت بأن أقرّ ما يسمى بالبرلمان العراقي قانوناً صدر في الوقائع العراقية في الثاني من حزيران 2012، تحت الرقم 25/2021 قاضياً بتعديل قانون المحكمة الفدرالية العراقية العليا. الكارثة في هذا القانون المزعوم ليس فقط بقيام المُشرِّع بإعادة إدراج نفس نص الصلاحيات الدستورية، أي بأن قام المُشرّع الاعتيادي الجاهل بإعادة طبع نفس الألفاظ الدستورية بنص القانون، بل إن الفقرة السادسة من المادة الرابعة من القانون نصت على «الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء». أي أن المُشرِّع الاعتيادي قام باختزال النص الدستوري بقانون اعتيادي بحذف التعليق على التنظيم التشريعي بغير أن يُشرع في كيفية قيام هذه الصلاحية. أيُّ دولة وأي مفهوم للتشريع هذا؟ أين درس القانون هؤلاء القوم؟ أيُّ جامعة أقرت لسفاهة كهذه لتسمى رجال قانون ومفهومية تشريعية؟
لنرجع لقضية النفط المتقدمة وأحكام المواد الكارثية 111، 112.1 و 2 تناسقاً مع المادة 115 الكارثية. فهنا من الحيثية الزمنية التي نصت عليها المادة 111 والفقرة الأولى من 112، المُشرع الدستوري حصر تنظيم النفط في الحقول الحالية، فقط. أي الحقول التي كانت موجودة قبل سن الدستور المجرم، فترك تنظيم الحقول المستقبلية للخيال والفوضى. فهنا شرع إقليم كردستان بإصدار قانون للنفط والغاز ليُنظم ما سيكون مع الحقول المستقبلية، ويملئ الفراغ الذي تركه الدستور الأرعن. لكن السفاهة الأكبر هنا لم تكن لا بين هذا ولا ذاك، إنما بسكوت الحكومة المركزية عن الطعن بالقانون الإقليمي. فما من أحد غيرها طعن به، حيث كانت الحكومة مشغولة بتمشيطها الطائفي وملئ جيوبها. فهنا بناء على هذه الفوضى التفسيرية للدستور المُجرم سارت حكومة الإقليم في إبرام اتفاقيات للتنقيب سكت الحكومة المركزية مرة أخرى عن الطعن بها، بالرغم من عدم صلاحية الإقليم لإبرام تلك الاتفاقيات السيادية. فبالرغم من كل الفوضى الدستورية المُجرمة، فما من نص واحد يجيز لإقليم ولا لمحافظة غير مرتبطة بإقليم بشخصية معنوية، أي قانونية، دُولية. فالشخص القانون الدُولي هي الدولة المركزية وحدها، وليس لأيٍّ من دونها من شخصية قانونية بالرغم من منطوق المادة 115، وفي هذا تعثر أخر مع مفهوم الدستور نفسه، لكن هذا من حيث الشكل المُسلِّم به. الأمر انتهى بإن عقود التنقيب المُبرمة انتهت بالعثور الفعلي عن حقول نفطية، فشرعت تلك الشركات، بموجب هذه العقود باستخراج النفط والتصرف به باستعمال أنبوب النفط الوطني الممتد لميناء جيهان التركي. فهنا الحكومة الوطنية لم تمتعض لا بأن اصدر الإقليم قانوناً، ولا بأن أبرم اتفاقيات انتهكت سيادة الدولة ونظامها، ولا بأن قام باستخراج النفط، إنما لأن قام باستخدام أنبوب النفط المملوك لها. فهنا هبت الحكومة للدفاع عن سيادتها بالطعن أمام المحكمة الإتحادية في القضية 8/إتحادي/2012. أي بنفس متزامنة مع طعنها في قضية نفط الكوت. الكارثة الأكبر لم تكن في كل هذا ولا ذاك، إنما في أن المحكمة المزعومة حسمت قضية الكوت في غضون أسابيع من الطعن به، بينما تغاضت عن الحكم في قضية نفط كوردستان عشر سنوات لم تصدر فيها ولا حتى أمر ولائي بإيقاف العمل بالمنظومة المطعون بها، إنما أبقت الحال على ما هو عليه عشر سنوات متتالية. فالخيانة هنا ليست فقط لمشرع دستوري، ولا لدولة، ولا لإقليم، ولا لأي مفهوم عقلي ومنطقي، إنما تقاعس للمحكمة لأداء واجب هو سبب وجودها، فأي غاية وأي هيبة لمحكمة لا تنظر ولا تحرك ساكناً عشر سنوات؟ بل أن المحكمة سمحت وتغاضت وهي ترى بأم عينيها استيلاء الإقليم على النفط المستخرج يومياً ولمدة عشر سنوات بالرغم من قدرتها لإصدار قرار ولائي بإيقاف العمل بمنظومة الإقليم.
الكارثة الأعوص كانت سنة 2018 أمام المحاكم الأمريكية، إبان قيام الإقليم بتحميل نفط مستخرج من الآبار الجديدة وتمريره عبر الأنبوب الوطني عن طريق ميناء جيهان التركي. فسارعت الحكومة الحنيكة للمطالبة بالقبض على باخرة تحمل ذاك النفط كانت مبحرة في مياه ولاية تكساس الأمريكي، مدعية صلاحيتها الحصرية بالقيام على النفط بموجب قانون وزارة النفط لسنة 1986. أي أن حكومة الدولة ذات السيادة طعنت أمام محكمة أمريكية ليس لعدم أهلية الإقليم الدُولية، وانعدام شخصيته القانونية مقارنة بها كصاحب سيادة، إنما ذهبت لعرض نزاع في قانونها الداخلي أما محكمة أجنبية. فوصلت تلك القضية بعد استئناف الإقليم لمحكمة استئناف الدائرة الفدرالية الخامسة الأمريكية في القضية 15-40062. انتهت القضية بالحكم لصالح الحكومة المركزية إسناداً على طعنها، بالرغم من عدم أهلية القضاء الأمريكي في فظ هذا النزاع، إنما أقرت المحكمة ذاك لغسل أيديها وغلق القضية. لكن الأدهى أن إبان إصدار الحكم، تمكن الإقليم من الفرار بالحمولة ومن ثم بيعها لإسرائيل. أي أن جملة القضية صارت هباءً.
الآن، في منتصف شباط 2012، أي بعد مرور عشر سنوات على الطعن، واستخراج النفط اليومي وبيعه من قبل الإقليم، تذكرت المحكمة للحكم بالقضية 59/إتحادية/2012 الماثلة أمامها حيث انتهت أن المواد الدستورية آنفة الذكر، 112 أولا وثانية، بموجب فقه قضية نفط الكوت، هي مواد دستورية موقوفة على تشريع اعتيادي ينظم سياقاتها، لهذا، وبالرغم من عدم طعن أي من الأطراف المتنازعة بدستورية قانون نفط الإقليم، أقرّت المحكمة عدم دستوريته. بل وزادت في حكمها بأن «يُمكن الإقليم وزارة النفط الفدرالية بمراجعة… العقود المُبرمة…». أي منطقية قانونية هذه؟ كيف ستراجع وزارة النفط عقود أُبرمت بموجب قانون أقرّت المحكمة نفسها ببطلانه؟ فالباطل باطل بائد، وليس بفاسد يمكن إصلاح فساده القانوني. لكن على ما يبدو المحكمة الفدرالية العراقية العليا لا تعرف أصلا الفرق بين الفساد والبطلان. بل وكيف ستتم مراجعة عقود أُبرمت بموجب قانون باطل دستورياً، أُبرمت من قبل شخص غير ذات صفة قانونية؟ دوران البطلان والفساد هنا مُبهم، فلا المحكمة تعرف التمييز، ولا حتى الدكاترة مستشاري أطراف النزاع طعنوا بهذا أصلاً. إنما ينم كل هذا عن ضياع دولة بسفاهة غير متناهية.
إنما أي دولة ترغب أن تُقدم نفسها للعالم بغير دستور، كمن يحضر حفلة رقص بلباس السباحة (Hauriou & Gicquel, 1966, ص 73). بالرغم من هذا الفرضية هنا قد تكون غير تامة، فالكيان الإسرائيلي صنع لنفسه دولة من عدم، وبدون دستور بموجب سياقات علمية ومنطقية لم يجادله عليها أحد. لكن المشكلة التي سيضيع فيها العراق الآن هو دخوله بدوامة جديدة مع تركيا التي تطالب بآبار نفط اتفقت عليها مع إقليم كوردستان غير المؤهل قانوناً، والتي لم تلغ المحكمة عقوده، بل ولم تتصدى الحكومة المركزية لقانونه في حينه، مما تركت الباب مفتوحا للغير للعبث بمقدرات شعب تائه بين أمواج القرصنة. الأدهى أن المحكمة تركت الباب على مصراعيه لتركيا بأن تقتحم الأراضي العراقية للدفاع عن آبار نفطها والتي لا تمتلك الحكومة لا من آلة قانونية ولا عسكرية رادعة للوقوف بوجهها. بل الأدهى أن رئاسة الجمهورية الحنكية صارت لبيانات تصدرها في تويتر تعرب فيها عن قلقها لدخول القوات التركية للأراضي العراقية، بنفس الصياغة والقلق لاقتحام روسيا لأوكرانيا، ولتصاعد النزاع بين أثيوبيا ومصر. كل هذا إنما ينم عن أن العراق لا يمت بصلة لا لمفهوم دولة ولا لقانون، ولا لسياسية ولا لدستور. العراق حالة شاذة غير قابلة لا للصرف ولا للإعراب.
إنما الأمر الوحيد الواضح هو أن العراق بحاجة آنية حتمية لدستور جديد، بل دستور حقيقي. فلا يمكن الاستمرار بالتسليم لدستور مجرم لم يجلب للبد غير الويلات منذ صدوره، ولم يتسبب بغير الفوضى والعقم التام للدولة وسياستها وجم المجتمع. بل أن واقع الحال يقضي بأن هذا الدستور الجديد لن يكتبه العراقيون، فإن كان الواقع الفكري للمحكمة الفدراية العليا كهذا، فما قد ينتظر من الفكر الدستوري العراقي ليكتب. فالمريض يعلم أنين المه، لكن يجهل الدواء بل وحتى أسباب الألم. وإن ما يرزح تحته العراق من انقلاب فكري (Alnasir, 2021a, ص 500, 2021b, ص 404)، إنما يحول دول أمكانية التغيير المستقبل. فالعراق يرزح تحت ظلام الجهل ليس السياسي، إنما الفكري والقانوني الذي سببه هذا الدستور المجرم. فالنتيجة ماثلة لا جدال عليها، فمنذ صدور هذا النص سنة 2005، نزح من العراق ما يزيد عن خمس ملايين عراقي، وحدود أوربا وسواحلها تشهد على جثث العراقيين الذي يموتون في محاولة الهرب من هذا الجحيم الدستوري. فكيف يمكن الاعتداد بمنظومة كهذه بأن تكون دولة؟ كيف يمكن تسمية نص كهذا دستوراً؟ إنما كل هذا يقضي بأن العراق بحاجة طارئة مستعجلة لدستور حقيقي جديد.
المصادر
Alaaldin, F. (2021, febrero 6). A State in Collapse: Iraq’s Security and Governance Failures. The Washington Institute. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/state-collapse-iraqs-security-and-governance-failures
Alnasir, S. (2021a). Calamidades del Derecho (post)Colonial y su Orientalismo: Religión, Identidad y libertad individual en Egipto, Iraq y Túnez. Boletín Mexicano de Derecho Comparado, 158, 485-519. https://doi.org/10.22201/iij.24484873e.2020.158.15627
Alnasir, S. (2021b). Creencia y pertenencia, el laberinto de las sociedades posotomanas. Passagens: Revista Internacional de História Política e Cultura Jurídica, 13(3), 389-418. https://doi.org/10.15175/1984-2503-202113301
Alnasir, S. (2021c, abril 23). Las revueltas de octubre 2019, el laberinto de la desesperación aprendida en Iraq. I Seminario Intercongresual del Comité 32 de la FES: Relaciones Internacionales, Estudios de Áreas y Globalización, Ciudad Real. https://doi.org/10.13140/RG.2.2.29228.80005
Cordesman, A., & Molot, M. (2019). Iraq as a Failed State (p. 17). Center for Strategic & International Studies. https://www.csis.org/analysis/iraq-failed-state
Filkins, D. (2014, abril 21). What We Left Behind. The New Yorker. http://www.newyorker.com/magazine/2014/04/28/what-we-left-behind
Flibbert, A. (2013). The Consequences of Forced State Failure in Iraq. Political Science Quarterly, 128(1), 67-95.
Gargarella, R. (2021). El derecho como una conversación entre iguales. Siglo XXI Editores.
Hauriou, A., & Gicquel, J. (1966). Droit constitutionnel et institutions politiques. Montchrestien.
Jayamaha, B., Petit, K., & Reno, W. (2017, abril 21). Iraq’s Path to State Failure | Small Wars Journal. Small Wars Journal. https://smallwarsjournal.com/jrnl/art/iraq%E2%80%99s-path-to-state-failure
Underhill, N. (2014). Iraq: State Failure, Terrorism, and Insurgency in Context — Part 1. En N. Underhill (Ed.), Countering Global Terrorism and Insurgency: Calculating the Risk of State Failure in Afghanistan, Pakistan and Iraq (pp. 130-152). Palgrave Macmillan UK. https://doi.org/10.1057/9781137383716_7