زمن السفاهة العربي، بين جهلِ مجتمعاتٍ ومؤسسات
لا جدال فيما جاءت به أزمة كورونا من خيرات وبركات على جمِّ المفاهيم السياسية في العالم، لا لتنذر بالصحوة فقط، إنما لتفرض اليقظة من الحلم الجميل الذي ما طفقت شعوب العالم تعيشه عِشقاً برهف الحياة الدنيا. لكن المشكلة لا تكمن هنا، إنما في مآلات هذا على المجتمعات العربية، المسلمة المؤمنة، المتأخية، المُلتفة حول أولياء أمورها، المُحبة لأوطانِها، والمؤمنة بعقيدتها.
الحق أن هذا الوصف سيخرج بدون موصوف، فالكلام هنا لا ينطبق على أي دولة، بل ومجتمع من المحيط إلى الخليج. فناهيك عن غفلة المؤسسات، وما جلب تقاعُسها، إنما جمّة الأقوام التي تسكن هذه البقاع اليوم لا ينطبق علها غير مفهوم، بل وصفة واحدة، ألا وهي السفاهة. شعوب سفيهة، وانظمه قانونية صحت فجأت فوجدت نقسها مُكبلة دون حيلة.
تحت ذريعة حرية التعبير، والإعلام والفكر، غَرسَ الغرب في العرب منابر السفاهة، وشُيّعَ فكرُ السُفهاء، فبينما تعتبر فرنسا رِعاية وسائل الإعلام أوليّة أساسية للدولة، تنازلت الحكومات العربية عن سُلطاتها الإدارية، ومَحكوميتها على وسائل الإعلام لمنابر سفاهةٍ بلا قيود ولا حدود، لا قانونية ولا أخلاقية بين فوضى الفضائيات والتقاطع الاجتماعي. لم يسحب أحد البساط من تحت السلطات، إنما تركت السلطاتُ البساطَ ليمشي عليه غيرُها.
فحيثما إحتلّت الجماهير العشوائية الشوارع، تحت عنوان حق التظاهر والتعبير، فوجئ الحُكام بعوز القوانين عن أدنى مفاهيم تنظيم كينونة الحقوق والواجبات، لضبط النظام العام والحيلولة دون الفوضى، وضرر الصالح العام، لا المتظاهر يعرف كيف يمارس حقه، ولا الحاكم يمتلك الآلية القانونية لضبط النظام وفرض قانون لا يمتلكه؛ بل وحتى اللجوء إلى القوة، وجد نفسه أمام مجهول العِدة، فلم يَستورِدُ من الغرب عِدة غير آلة الحرب الفتاكة، وأسلحة قاتلة. لا من أدواة ردعٍ قانونية، ولا من آلات لتنفيذ الردع، ضاعَ وهُدِرَ أرخصُ شيئٍ في بلاد العرب: الحقوق والدماء.
وحيثما جنحت اليوم هذه الجائحة، فوجئ الحاكم والمحكوم بالرزوح تحت حكم السفاهة. لا الحاكم يمتلك وسائل إعلام وإرشاد يفرض بها حكم الدولة وضبط النظام العام، ولا من أدواة قانونية ناجعة لردع سُفهاء المنابر الذي انتهزوا فرصة الفوضى للحكم من دولة التواصل الإجتماعي الفوضية المستقلة العشوائية. بث الرعب والفوضى، بل وإشاعة اللا قانون بين الشعوب المسكينة، أصبح يسمى تأثير وإرشاد اجتماعي. إذا كانت الدول العربية ترزح تحت شق بين الحاكم والمحكوم، فإن الشق اليوم صار وادٍ عميق سينهار فيه الأخضر واليابس.
فبينما في أوربا التي فَرَضت هذه التحررية الفوضوية السفيهة، تجد قوانينها تردعُ من ينشر الرعب بين الناس، بل وأجهزتها تلاحق وبصرامة كل من يتولى المنابر بغير علم لينشر ما يحلو له، ويتناقل ما لم تتولّهُ مصادر الدولة وسلطانها1، تجد منابر العرب تولاها سفهاء الزمان ممن سلّمت الدولةُ لهم لِحاها، وتنازلت لهم عن سلطانها في زمن الغفوة. ناهيك عما يتمتع به هؤلاء مما سُمي بدعم وإعجاب الفضاء المرئي. فتجد طبيب الأسنان والبيطرة، والزراعة يوجه نصائحه بكيفية مقارعة الجائحة، بل ويطلب من المرضى عدم “تسليم” أنفسهم للمؤسسات الصحية، مدعياً بأن الفيروز سيتوارى لوحده مع المرض. فإن كان هذا الفيروس مما يتوارى مع الزمن، فأين المشكلة إذاً؟ بل وإن هذا السفيه يدعي نفسه طبيب أسنان، تغفل عنه النقابات، ربما لقصور تشريعي، وغياب مؤسسات رقابة تقف عند منابر السفاهة، وتفرض القانون، لتحد من انتشار داء أكبر من الوباء نفسه. فبينما نشر مثل هذه الأخبار يُعاقب عليه بغرامات باهظة في إسبانيا وفرنسا لا تقل عن ستين ألف يورو، في الولايات المتحدة أصبح يُعامل بحكم الإرهاب. فمن ينشر أفكار تُرهِب الناس، وتشيع الفوضى، فما هو إذا غير الإرهابي؟ بل وإن لم يكن فما الإرهاب إذا؟ بل إن في إسبانيا، تحت ضلِّ حالة الطوارئ، شكلت سلطات الأمن خلية خاصة لملاحقة كل من ينقل ويتناقل أي تسجيل إخباري، إرشادي غير حكومي، وإيقاع غرامات من ستة إلى ستين ألف يورو، حتى إن الصحافة تناقلت في الأسابيع الأولى أن عدد العقوبات بلغت ثلاث آلاف حالة، مقابل اربع الآف ضحية للفيروس، فقيل “جنى الفايروس على ثلاث الأف سفيه، وسقطت جراءه أرواح أكثر من اربع الآف ضحية”.
المشكلة أن هذه الشخصية لا هي صاحب علم ودراية، ولا تخصص ولا علمية، تدعي أنها طبيبة أسنان، فأين نقابات الأطباء والأسنان عن هذه الحالات، أم أنها الأخرى عديمة الآلية القانونية؟ فإن كان السؤال عن سبب وجود الدولة، فلم وجدت النقابات إذا؟
بل والأدهى أن حتى برفيلها المؤثر، والمتمتع بما يزيد عن ٢٧ ألف متابع، لا يرجع لأسم صحيح، ولا صفة حقيقية، فهل هذا هو ما تنازلت الدولة التقليدية عن سلطاتها له، تحت ذريعة فوضوية حرية التعبير والفكر؟
بل والأدهى من هذا من استولى على المنابر، تحت عنوان المُحلِل الإستراتيجي، المرشِد السياسي، وألحنيك هو ذاك القادر على إشغال عقول العوام في أي أمرٍ، من يتسابق لمجرد أن يقول شيئاً، لا من عنده شيئ ليقول. فهذه الدولة المقصرة قصرت حتى في ضمان أسباب كينونتها، قرارها، سلطتها، وراعيتها للمصلحة العامة ستجد نفسها يوماً رهينة لهذا السفيه، ليكون لها ناطقاً رسمياً ينقل فكرها للعامة.
فبينما تحط الطواقم الصينية في أوربا ناقلة أطنان الأدوات الطبية والأدوية، وتحط الطائرات الروسية المطارات الأمريكية ناقلة دعماً طبياً، يتكاتف العالم من أجله يخرج القائد الإستراتيجي والمستشار الفذ فينشر الرعب بين الناس، ويُثير عدم الثقة بالمؤسسات العامة، مُدعياً زوراً وبهتاناً بأن الولايات المتحدة تستخدم أجهزة تفوق الأجهزة الصينية، مثيراً شك العوام في آليات الفحص، وتحت ذريعة التحررية التعبيرية، ففي منابر العرب، كلُ ذي لسان له منبر غير مسؤول.
بينما كانت سلطات الأوقاف تقود وحدة منابر المساجد عن طريق خطبةٍ موحدة مُنظمة، تضمن بها وحدة الرأي من جهة، وتخفف ألعبء عن بعض الأئمة من جهة أخرى بالرغم من أن أغلب أئمة المساجد موظفو دولة، أي سبق للدولة التعاقد معهم على أسس كفاءة وأهلية علمية، تحت ظروف هذه الجائة أُغلِقت المساجد؛ للتنازل الدولة عن زمام الأمر لمنابرِ السُفهاء، منتحلي الصفات ومتقنعي اﻷسماء للسيطرة على الرأي العام في أكثر ظرف ذي حرج يتطلب من الدولة لم الشمل، ومن الشعوب لف الصفوف ونبذ أي خلاف شخصي. بل صارت الفرصة الذهبية ليثبَ السفهاء المنابر، ثم لتجد الدولة نفسها بلا سبب ولا مقصد لوجودها، فإما أن تسارع بحلٍ لعلاج هذه الجائحة، وإما فغد المؤسسة العامة العربية لمظلمٌ لا محالة.
بل والمشكلة الأعظم أن هذه الفوضى صارت بين العرب جزء من الثقافة، بل والهوية، فصار يحملها العربي حتى لبلاد المهجر يبتهج بتصديرها، وما أكثر الأصوات اليوم التي صارت تتعالى بين أمة المليار مفتي ممن يدعي بحرمة غلق المساجد، ويزج الرسائل التي تُكفِّر منع صلوات التراويح، وكأن التراويح فرضاً، رحم الله مُصلِّين الفجر، حيث أغلب المساجد لم يكن يقام فيها الفجر أصلاً.
السؤال الأهم هو ليس كل هذا، إنما أين حملة الدال والنقطة، أين هؤلاء الدكاترة الفطاحل مستشاري الدُول للإسراع بحلول قانونية تضمن سيادة الدولة، وحدة القانون وحماية المصلحة العامة؟ بل إن أغلب دساتير الدول العربية وجدت نفسها فقيرة لا تحوي حتى تعريفاً للمصلحة العامة، فدرّكم لله يا سفهاء الزمان. إن كان الحكم الأزلي لله، فلمن الحكم اليوم؟ لسفهاء المنابر؟ ربما هو ذاك فهذا زمن السفهاء!
1سبق وإن شرحت تفاصيل قانون الطوارئ الإسباني، ونظام العقوبات إبان صدوره على عجل، تلبية للعديد من الاستشارات التي وصلت، لكن في عدة حوارات وجدت أن الأنظمة العربية غارقة في مشكلة فوضى اجتماعية أعمق، وبنفس الوقت عوز آلي في كيفية تكييف إمكانيات الردع. بل وإنما هذه فرصة مستعجلة لإعادة النظر بجم الهيكليات القانونية والدستورية العربية التي أثبتت هذه الأزمة قصرها، بل فشلها المريع.
أنظر في شرحي للإجراءات على التغريدة: