This post is also available in: English (الإنجليزية) Español (الأسبانية)
المُلخص.
ثبت معرفة مرض عضال مماثل لجائحة زماننا هذا، الكورونا إبان سنة 462 للهجرة، نفس سنة زلزال مصر وفلسطين، وواقعة ملاذكر. على ما يبدو الداء كان معروفاً منذ القرن الآنف، فقد راح فيه من الملوك والأعيان، لكن أصاب أهل بغداد في سنة 462 للهجرة (1070 للميلاد) حتى راح فيه سبعون ألفاً في أسبوع واحد، وانتشر من بغداد إلى الموصل، والشام والبصرة، والأحواز. مات فيه أناس وأغلقت بيوت كاملة على من فيها، بل إن شوارع كاملة مات سُكانها وأغلقت على من فيها، خلت فيها قرى كاملة. أنتشر المرض بين الناس بصورة فضيعة، بل وشاع بين الناس والخيول والحمام. عُرِفَ بالخُناق، أي ما أصاب الناس من خنق في التنفس، مصاحب بحمى، وهزيل شامل مميت ما بين خمسة إلى سبعة أيام، لكم لم يثبت معه احمرار الجلد، وهو ما قد يفرقه عن جائحة كورونا في أيامنا هذه. عجز الأطباء عنه، لم ينفع معه لا ساخن ولا بارد، ولم يتمكنوا منه إلا بعزل الناس وحجرهم.
المقارنة تنتهي إلى تصحيح بعض السرد التأريخي عند إبن كثير الذي عزى الأحداث لسنة 425، فنقترح تصحيحه لنفس سنة زلزال مصر وفلسطين 462، بتوافق أدلة أخرى، ومن ثم تصحيح أحداث تأريخية أخرى عند إبن كثير توافقاُ مع إبن القيم والأثير في عرض المسرح التأريخي.
المفاتيح. داء الخوانيق، كورونا، زلزال مصر وفلسطين، تصحيح إبن كثير
توطئة
استرعى انتباهي خبر تناقلته منشورات إلكترونيه مفادهُ أن إبن كثير ذكر «كثرة الموت في بغداد بداء سمي بالخوانيق، وهو داء يصيب الحلق والحنجرة يصعُب معه التنفس، وتصحبه حرارة عالية وضعف. حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم قد ماتوا ، فمات في شهر واحد 90 ألف». ولقوله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»، حاولت تقصي أصله، وصحة مصدره. فوجدت مغالطات ومفارقات في التأريخ ما جذبني للوقوف عليها، بالرغم من أني لست مؤرخاً ولا أقل من ذلك، لكن إسترسلت في مقاضاتها للنظر فيها، .
مصدر الخبر المُتناقل أورده إبن كثير في البداية والنهاية، الجزء الثاني عشر في خبر سنة خمس وعشرين وأربعمائة لهجرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم. جملةُ مفادِ أخبار السنة أورد فيها ما يلي:
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة
فيها غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان من جملتها أنه حاصر قلعة حصينة فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضا شديدا، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهبا عنها، عوفي عافية كاملة، فرجع إلى غزنة سالما. وفيها ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين. وفيها: ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه، فقصد عمه قرواشا فأقره وساعده على أموره. وفيها هلك ملك الروم أرمانوس، فملكم رجل ليس من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين. وفيها: كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعا، وخرج أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الأرض. وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي. ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا كثيرا من الأشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف، والزنود والأصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا. وفيها كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفا. وفيها وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين مع ابنا الأصفهاني، وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة. ولم يحج أحد من أهل العراق1.
ما يثير الانتباه في هذا النص بعض أحداثه التي سنتعرض لتحقيق مغالطات كثيرة بين كتب التأريخ، ومن ثم لننتهي لما جئنا إليه في حيثيات داء الخوانيق المذكور. إضافة إلى سردية إبن كثير هذه في هلاك ملك الروم أرمانوس، وتوافق الأحداث فيما يتعلق بزلزال مصر وفلسطين وجَزرِ البحر.
تخريج الرواة.
قبل الاسترسال في التحقيق، يجدر التعريج على سالف إبن كثير في توريد الخبر. فَوِردُ هذه القصة لابن كثير (701- 774) سبقه في رويتاهِ إبن الجوزي (510-597)، وكذلك إبن الأثير (555 -630). الأول والثاني دمشقيان والثالث موصلّي، توفي إبن قيم الجوزية في رجب، والآخرين كلاهما في شهر شعبان، رحمهم الله واجزاهم كل خير، والحق يقال أن بالتسلسل التأريخ إبن الجوزي أقرب للأحداث زمنياً مما يتبلو في توثيقه وهو ما سنقف عليه.
في أحداث سنة 425 للهجرة عند إبن الأثير
سرد إبن الأثير باسترسال ووضوح أحداث سنة 425 المعنية2.
أول ما يوقفنا عنده ذكر قلعة اسمها نَغْسَى بالهند، التي وصلها مسعود بن محمود عاشر صفر، فأقام «عليها يحصرها فخرجت عجوز ساحرة فتكلمت باللسان الهندي طويلاً وأخذت مكنسة فبلتها بالماء ورشته منها جهة عسكر المسلمين، فمرض وأصبح لا يقدر أن يرفع رأسه وضعف قوته ضعفاً شديداً فرحل عن القلعة لشدة المرض فحين فارقها زال ما كان به وأقبلت الصحة والعافية إليه وسار نحو غزنة»3.
الخبر الثاني، بقول إبن الأثير، في هلاك أرمانوس ملك الروم الذي ملك بعده رجل صيرفي ليس من بيت الملك، وإنما بنته قسطنطينة اختارته4.
الخبر الثالث الذي نتوقف عنده، يقول فيه إبن الأثير أن فيها «كثُرت الزَّلازل بمصر والشام وكان أكثرها بالرملة، فإن أهلها فارقوا منازلهم عدّة أيام وانهدم منها نحو ثلثها وهلك تحت الهدم خلق كثير، وفيها كان بإفريقية مجاعة شديدة وغلاء»5.
الخبر الرابع أن «فيها هبت ريح سوداء بنصيبين فقلعت من بساتينها كثيراً من الأشجار، وكان في بعض البساتين قبر مبنيٌّ بجص وآجر وكلس فقلعته من أصله».
وآخر ما يهمنا من أخبارها أن «فيها كثر الموت بالخوانيق في كثيرٍ من بلاد العراق والشام والموصل وخوزستان 6 وغيرها حتى كانت الدار يُسدُّ بابها لموت أهلها»7.
بل وإن إبن الأثير ينفرد بخبر آخر عنها فيقول «وفيها في ذي القعدة انقضَّ كوكب هال منظره الناس وبعده بليلتين انقضَّ شهاب آخر أعظم منه كأنَّه البرق ملاصق الأرض وغلب على ضوء المشاعل ومكث طويلاً حتى غاب أثره»8.
تحليل تفاوت السردين.
من يقرأ في سرد إبن كثير الأول يحتار في فهمه سواء كان من حيث التأريخ أم الجغرافية. فحيثما يَسرُد ذكر الغلاء في إفريقيا، تونس حالياً، يتبعه بعصف الريح السوداء بنصيبين، أي مدينة ماردين التركية الحالية. فدمجُ الخبرين مُربِك لا محالة، فما علاقة تونس بماردين؟ بل وإن إتمام الخبر يقول فيه «وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا»، فلا ندري أيهما يقصد، نصيبين أم إفريقيا؟ فنصيبين، أي ماردين الحالية، تبعد عن ساحل البحر مئات الكيلومترات، فهي مدينة داخلية، أقرب ساحلها يقع في مدينة دورتيول الحالية، أي ما يتجاوز 500 كيلومتر.
إلا إن هذان الخبرين الأخيرين يردان مُنفصِلَين مُفصلَين واضحين عند إبن الأثير، الذي لا يتوقف عند خبر جزر البحر. فخبر الغلاء في إفريقيا يورده كما صنفناه بالخبر الثالث، ومن ثم يَسرُد خبر رياح نصيبين كخبرٍ مستقل آخر لا مغالطة في فهمه. أي أن لفهم حقيقة السرد يجدر الرجوع لابن الأثير لتفصيله ودقته عن خبر إبن كثير. لكن يبقى خبر جزر البحر هذا مُشوَش، فلا ندري أي المقصود بجزر البحر، أفي إفريقيا، أم في نصيبين، أم ربما لهذا علاقة بزلزال مصر والشام، الذي قد يكون نتجته حدوث ما عُرفت اليوم بظاهرة سونامي، نسبة للمفردة اليابانية، التي يجزر فيها البحر ثم يمُدُّ مداً غارقا، إبان الزلازل.
كلاهما مع إبن الجوزي
يبدو أن السرد الأوضح للنازلة يورده إبن الجوزي (510-597)، لكن يسنده لسنة 460، وليس لسنة 425 كما يذكر إبن كثير والأثير. فيقول فيه إبن الجوزي:
«وفي جماد الأولى: كانت زلزة بأرض فلسطين أهلكت بلد الرملة، ورمت شرافين من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقت وادي الصفراء وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة، وجاء كتاب بعض التجار في هذه الزلزة، ويقول: إنها خسفت الرملة جميعها حتى لم يسلم منها إلا دربان فقط، وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة، وانشقت الصخرة التي ببيت المقدس، ثم عادت فالـتأمت بقدرة الله تعالى، وغار البحر مسيرة يوم وساح في البر، وخرَّب الدنيا، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون فرجع إليهم فأهلك خلقاً عظيما منهم»9.
نفهم هنا أن جزر البحر، أي السونامي، حدث متواصل مرتبط بزلزال مصر وفلسطين العظيم، الذي بلغ مرماه الكوفة، بالرغم من عدم إيضاح دقة مكان الجزر، أكان في البحر الأحمر، أم في سواحل المتوسط. ربما كان في الأحمر لمهولة وصف الجزر الذي راح مسيرة يوم، أو كما وصفه إبن كثير في مقداره، ثلاث فراسخ.
إلا أن المقدار هذا فيه تفاوت لإبتعاد الواصف والموصوف. فمقدار الفرسخ قال فيه إبن باز (رحمه الله)
«وأما الفرسخ: لا أعلم الآن مقداره بما يتعلق بالموازين الحالية، ما أتذكر الآن، ولكنه يعني لمن تأمله سهل؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والبريد نصف يوم، فأربعة فراسخ تقريب اثنا عشر ساعة؛ لأن مسافة القصر عند جمع من أهل العلم أربعة برد، ستة عشر فرسخ، والبريد أربعة فراسخ نص يوم، يمكن يعادل بست ساعات، كل فرسخ ساعة ونصف تقريباً، فالحاصل أنه لمن تأمله يتضح له إن شاء الله، لأن الفرسخ معروف»10.
نفهم من هذا أن اربع فراسخ، في مفهوم إبن باز، قياساً على ثابت وتواتر مسافة القصر عند أهل العلم، أن أربع فراسخ ست ساعات مسير، أي نصف نهار، وليس يوم بنهاره وليله، فثلاث فراسخ التي ذكرها إبن كثير قد تعادل مقدار أربع ساعات ونصف سيراً، لكن هذا ما لا يتوافق مع وصف إبن الجوزي في قدره يوماً، أي ثمان فراسخ، تقريباً، بالرغم من وجود قرب شاهد عصري وعيني بين إبن الجوزي مع زمن الواقعة التي قد يكون قد لازم شهودها، أكثر من إبن كثير. لكن يجدر أيضاً الأخذ بعين اعتبار الواقعة، أن البحر حيث جزر نزل إليه الناس وراء السمك، فرجع عليهم فهلكوا، أي لم يخرج منهم شاهد يشهد بالرواية، ألا من رواها من الغير الذي لم ينزل فقد يكون قد تاه عليه المقدار لهول المشهد. ومنه قد نستشق، إلا إذا فعترض أهل الاختصاص في معقولية أن يكون مقدار الجزر هذا في البحر الأحمر لضيق حوضه، فليس من المعقول أن يكون قد جزر البحر الأبيض المتوسط كل هذا المقدار من جهة فلسطين، فلم نعثر على ما يقابله من مد في سواحل الشمال الأوربية. مما يخلصنا للجزم بأن المد قد وقع في البحر الأحمر، من سواحل سيناء نزولاً في البحر الذي قد تراجع بسبب مهولة الاهتزاز الذي قُدر بسبع درجات على المقياس الحديث (ريختر)11.
المفارقة الأخرى في تأريخ الزلزال الوارد عند إبن الأثير وإبن كثير نسبة لسنة 425 للهجرة الشريفة. خبر هذا الزلزال مضطرب في كتب التأريخ العلمي على أنه وقع إبان صبيحة يوم 25 شباط (فبراير) 1070 للميلاد12، أي ما يوافق الثاني عشر من جماد الأولى لسنة 462 للهجرة المطهرة، وهو ما يقترب ويتوافق مع ما وثقه إبن قيم الجوزية بأنه من أحداث سنة 460. بل وإن مفارقة تأريخ حادث الزلزال وقف عليها آخرون فحصروها ما بين 20 نيسان (أبريل) 1067، 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1067، أو الثاني من شباط (فبراير) 107013، أي ما يتوافق تماماً مع ذكر إبن الجوزي وينفي ما أورده ابنا الأثير وكثير أنه وقع سنة 42514.
بل وسنقيسه على حدث آخر من أحداث السنة لتحقيقه.
في هلاك أرمانوس.
خبر هلاك أرمانوس، ملك الروم الذي خلفه رجل بنت قسطنطينة، على حد تعبير إبن الأثير، بالرغم من غموض الخبر عند إبن كثير، فقوله «ملكهم رجل ليس من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين». لا ندري ما قصد بهذه العبارة المتناقضة، أنه رجل ليس من بيت ملكهم… إلا أنه كان من سلالة قسطنطين. فإن كان من سلالة قسطنطين، فكيف إذا هو ليس من بيتهم؟
لفهم هذه المفارقات ترد قصة قسطنطين الذي ولاّه الروم عليهم بعد الخلاف بين بنات قسطنطين بن أرمنوس الهالك سنة 419، فخلفته آخر بناته “ندورة” التي خلعوها ليقع الخيار على رجل من بينهم إسمه قسطنطين، أيضاً، فملّكوه عليهم سنة 434 للهجرة، فهلك سنة 446 للهجرة15. فخلفه أرمانوس، وكان ذلك أول الدولة السلجوقية، الذي أسره أرسلان في واقعة ملاذكرد في ذي القعدة لسنة 463 التي انتصر بها السلاجقة على الروم تحت راية ألب أرسلان السلجوقي الذي خلف أبيه طغرلبك من سنة45516 وحتى46417، حيث خلفه إبنه ملكشاه المتوفى سنة 48518.
نفهم من هذا تضارب في الأحداث والتواريخ الواردة عند إبن كثير. فأرمنوس الذي يقصد هلاكه إبن كثير سنة 425 هو ليس خليفة قسطنطين، إنما هو قسطنطين بن أرمنوس الهالك سنة 419، وليس كما ذكر إبن الكثير سنة 425. لكن قياساً على واقعة ملاذكر لسنة 463 يتوافق الحدث التأريخي مع زلزال مصر والشام، لكن ينتفي مع خبر هلاك أرمنوس.
الخوانيق في سرد التأريخ
يوثِّق ابن الجوزية وفاة بويه أبو منصور، مؤيد الدولة بن ركن الدولة عن عمر يناهز الثلاث وأربعين سنة، سنة 37319. من دون أن يذكر ماهية داء الخوانيق هذا وكأنه معروف عندهم حينئذٍ، وهو الذي أورده إبن الأثير بنفس السرد20، ولم يذكر أسبابه إبن كثير21. ومن ثم يذكر ابن الجوزية أن تلاه عام الطاعون، 478 الذي عم بغداد ووهلك به عامة أهل البصرة وخرسان والشام، حتى أن درباً من دروب التوثة مات جميع أهله فسُدَّ باب الدرب، وتعقبه موت الفجأة، ثم تلاه الجدري في الأطفال، وتعقبه موت وحوش البرية، ومن ثم موت المواشي، فعم القحط، ثم أصاب الناس الخوانيق، والأورام، والطحال22.
الجدير بالذكر هنا وصف إبن الجوزية لما سماه بالطاعون فيقول فيه:
«بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها، وكان عامة أمراضهم الصفراء، بينا الرجل في شغله أخذته رعدة فخر لوجهه، ثم عرض لهم شناج وبرسام وصداع، وكان الأطباء يصفون مع هذه الأمراض أكل اللحم لحفظ القوة، فإنهم ما كانت تزيدهم الحمية إلا قوة مرض، وكانوا يسمونها: مخوية، وتقول الأطباء: ما رأينا مثل هذه الأمراض لا تلائمها المبردات ولا المسخنات، واستمر ذلك إلى آخر رمضان فمات منه نحو عشرين ألف ببغداد، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت، وكان الناس يوصون في حال صحتهم، وكان الميت يلبث يوما ويومين لعدم غاسل وحامل وحافر، وكان الحفارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يقبر نهارا، ووهب المقتدي للناس ضيعة تسمى الأجمة فامتلأت بالقبور، وفرغت قرى من أهلها منها المحول»23.
فمن هذا الوصف يبدو أنه مرض الصفار أو أبوصفار (Jaundice)، النازل سنة 478، هو ليس الطاعون بعينه كما نفهمه، ولربما كان يسمى كل داء يطعن بالناس طاعوناً، بل ولا يتفق مع وباء زمننا هذا، ما سمي بالكورونا، المعروف باحمرار الوجه وليس اصفراره، الذي تلا نزول ذاك الوباء الوارد في ذكر إبن الجوزية لأحداث سنة 478، لكن يتواتر ذكر نزول الخوانيق في عدة أزمنة وعلى كثير من العباد والمخلوقات.
الخوانيق لغة.
ذكر إبن القيم ان الخوانيق قضت على الملك نور الدين محمود زنكي، سنة 569، مرض يمنع من النطق، وهو شأن من أوجاع الحلق، حتى قيل لقبره« نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق» 24. في لسان العرب لابن منظور(متوفى سنة 711) أوردها تحت باب الخنق فقال فيها «الخناق والخناقية داء أو ريح يأخذ الناس والدواب في الحلوق ويعتري الخيل أيضا وقد يأخذ الطير في رؤوسها وحلقها وأكثر ما يظهر في الحمام فإذا كان ذلك فهو غير مشتق لأن الخنق إنما هو في الحلق يقال خنق الفرس فهو مخنوق»25. وفي المعجم الوسيط الخُنَاقُ كل داءٍ يمتنع معه نفوذ النَّفَس إلى الرِّئة، و الخُنَاقِيَّةُ داءٌ أو ريحٌ يأخذ في حلوق الناس والدَّوابّ، وقد يأخذ الطَّير في رُءُوسها وحُلوقها، وأكثر ما يظهر في الحَمَام، ويعتري الخيلَ أيضاً26. وأما معجم اللغة العربية المعاصرة فيورد خُناق على أنه داءٌ مُعْدٍ يصيب الحلق والحنجرة، يصعُب معه التنفس، وتصحبه حرارة عالية وضعف ويقال له: الدفتيريَّة “أصيب بخُنَاق شديد”27. وهذا هو ربما عين داء زماننا، إلّا إن داء الكورونا يصحبه احمرار الجلد الذي لم يذكره أحد هنا.
الباكورة.
مما تقدم في مصالحة الأحداث نفهم أولاً أن ما سرد إبن كثير المتعلق بأحداث سنة 425 للهجرة المطهرة، يتعلق بهلاك قسطنطين بن أرمنوس سنة 419 وليس 425، بل ولم يهلك أحد منهم في تلك السنة، إنما خليفته قسطنطين الهالك سنة 446، خلفه أرمانوس الذي وقع أسير السلاجقة في واقعة ملاذكرد سنة 463، نفس سنة زلزال مصر والشام، وليس 425 كما ذكرها إبن كثير.
وأما الخوانيق، فهو مرض عضال لا محالة، لكن لم يتواتر إثبات عدواه، أي لم يرد أنه مرض معدٍ كالطاعون. بل إن مؤيد الدولة الذي هلك به حُمِل به، وصُلِّيَ عليه، وجُعِل قبره مزاراً، فلم يذكر أحد تفشي هذا المرض كداء بين الناس بالرغم من عضاله حينئذٍ، أي إبان القرن الرابع للهجرة المطهرة. لكن لم يثبت علاقة تفشيه ببغداد والعجوز الهندية التي ضربت بمكنستها جيش مسعود الغنزوي ومرضه، فلم أجد علاقة بينهما، فقد اتفقت أكثر من رواية على معافاته بعد مغادرة الحصار، فهو على ما يبدو لم يكن إلا سحر ساحر، والعياذ بالله.
لكن على ما يبدو ويثبت هو أن الخوانيق هو داء مهول نزل ببغداد، الموصل، الشام، وامتد من البصرة إلى الأحواز لما فتك به من العباد والدواب، راح ضحيته سبعون ألفاً من عوام وخواص العباد، بل لم يفرق بين طائر ودواب.
الحواشي
1إبن كثير. البداية والنهاية. بيروت، مكتبة المعارف، 1991. الجزء 12، صفحة 35 –36.
2إبن الأثير. الكامل في التأريخ. تحقيق الدقاق، محمد يوسف. بيروت: دار الكتب العلمية، 1978. المجلد الثامن، صفحة 210 وما بعدها.
3إبن الأثير، المصدر السابق، صفحة 210.
4إبن الأثير، المصدر السابق، صفحة 225.
5إبن الأثير، المصدر السابق، صفحة 225.
6الأحواز حالياً.
7إبن الأثير، المصدر السابق، صفحة 225.
8إبن الأثير، المصدر السابق، صفحة 225-226.
9إبن الجوزي. المنتظم في تأريخ الملوك والأمم. تحقيق عبد القادر عطا، مصطفى ومحمد. بيروت، دار الكتب العلمية، 1995، الجزء 16، صفحة 105.
10في رده على السؤال، أنظر إبن باز في مقدار الصاع والفرسخ في المقاييس العصرية:
11أنظر:
Abdel-Fattah, Ali et alt. «Fault plane solutions of the 1993 and 1995 Gulf of Aqaba earthquakes and their tectonic implications». Annali di Geofisica, Vol. XL, N.º 6. December 1997, (1555-1564), p. 1557.
12National Oceanic and Atomospheric Administration, NOAA. [8 may, 2020] https://www.ngdc.noaa.gov/nndc/struts/results?bt_0=&st_0=&type_17=EXACT&query_17=None+Selected&op_12=eq&v_12=EGYPT&type_12=Or&query_14=None+Selected&type_3=Like&query_3=&st_1=&bt_2=&st_2=&bt_1=&bt_4=&st_4=&bt_5=&st_5=&bt_6=&st_6=&bt_7=&st_7=&bt_8=&st_8=&bt_9=&st_9=&bt_10=&st_10=&type_11=Exact&query_11=&type_16=Exact&query_16=&bt_18=&st_18=&ge_19=&le_19=&type_20=Like&query_20=&display_look=1&t=101650&s=1&submit_all=Search+Database.
13Ambraseys, et al. The Seismicity of Egypt, Arabia and the Red Sea: A Historical Review. Cambridge: Cambridge University Press, 2005, p. 31.
14في دراسة أخرى تذكر بأن الزلزال وقع 18 آذار (مارس) 1068، وليس 25 شباط (فبراير) 1070، أنظر:
Abdel-Fattah, Ali et alt. ibid, p. 1557.
15القلقشندي، احمد. صبح الأعشى. القاهرة، دار الكتب الخديوية، 1915، الجزء الخامس، صفحة 400 -401.
16حققه أيضا عبد اللطيف، أحمد. منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة. الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،1993، صفحة 20.
17إبن كثير.المصدر السابق. صفحة 107.
18إبن كثير. المصدر السابق. صفحة 143.
19إبن الجوزي. المنتظم في تأريخ الملوك والأمم. تحقيق عبد القادر عطا، مصطفى ومحمد. بيروت، دار الكتب العلمية، 1995، الجزء 14، صفحة 302-303.
20إبن الأثير. المصدر السابق، الجزء السابع، صفحة 409.
21إبن كثير، المصدر السابق، الجزء الحادي عشر، صفحة 302.
22إبن الجوزي.المصدر السابق،الجزء 16، صفحة 240.
23إبن الجوزي.المصدر السابق،الجزء 16، صفحة 240.
24ابن القيم، المصدر السابق، الجزء 12، صفحة 284.
25إبن منظور، جمال الدين. لسان العرب. بيروت، دار صادر، 1300، المجلد الثالث، صفحة 14.
26أنيس، إبراهيم وآخرين. المعجم الوسيط. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، 2004، صفحة 260.
27عمر، أحمد مختار. معجم اللغة العربية المعاصرة. القاهرة، عالم الكتاب، 2008،المجلد الأول، صفحة 703-704.