This post is also available in: Español (الأسبانية)
في صدى الرد على مقال «الرحمة، لبنان… والأرانب»
الجماهيرية، أو ما عُرِفت مَجازاً على المنابر العربية بالشعوبية، هي المفهوم الذي بات يُسهِر الدارسين والأكاديميين في نوعية الحياة الديمقراطية في الغرب بعد التحرري؛ والذي سرعان ما صار حديث الساعة في منابر الدراسات الإستراتيجية حيث تحوّل إلى آلة غليلة في أيد أجنبية خفية تلعب بها في أمن الشعوب؛ بل سارع الكثير لصقل المفهوم لما سمي باﻷنجليزية fake news أي الأخبار المُجوّفة، المكذوبة. الحق يقال أن الجماهيرية ليست مشكلة سياسية بحتة، ولا ثغرة في النظام الانتخابي، ولا حتى منهج كلامي، خطابي خلّاب للجماهير، الجماهيرية مشكلة الجماهير نفسها، غرق بها الغرب لأسباب صميمه في بناء هويته التأريخي وتاه بها العرب بالعدوى غير المنتظرة.
إبان قرون التنوير في أوربا نتج اتساع حيز المنابر ليتسع جمّ الجحافل الجماهيرية. الجمهور لم يبت جمهوراً، إنما إرتقى الجميع المنابر، بل المنابر لم تبت منابراً، إنما صارت تبتلع جمَّ الجماهير. تحوّل الجمهور من رعيّة يسوقها أصحاب الرأي والمنطق، إلى جماهير رافضة لهويتها الجماهيرية الانقيادية، انقلبت موازين العقل ليصبح كل ذي لسان متحدثاً موسوعياً. بل لم تبت المنابر محطات العلم والتنوير، إنما صارت لمن يدفعه الجمهور حيث يجد فيه ما يأجج مشاعره واحتياجاته الغرائزية. نتيجة لذلك لم تبت المنابر محطات ذوي العلم، إنما صارت مُحتلّة من قبل ذوي السفاهة وشاغلي عقول العوام. لم يبَت لصاحب المنبر حاجة في عقلانية الخطاب ليصير خطيباً إنما يكفي أن يكون قادراً على تأجيج المشاعر ليسوق الجماهير لمنبره، شاب المفهوم، حينئذٍ، بين الخطيب العقلاني، والخطيب الخلّاب. الجماهير يحكمها المفهوم السُوقي، والسُوقي هو من يسيطر على أرواح الجماهير، كلما كان الخطيب عالماً عقلانياً بات ثقيلا يسبب صداع في عقول الجماهير فتنفر منه في سبيل من يأجج الصدور لا العقول، فلسفة المجالس والمقاهي سرعان ما اعتلت المنابر لتستحوذ على جم العقول فتصير ثقافة إجتماعية سائدة. هذه المشكلة سبق في التحذير منها أورتيغا إبان العقد الثاني من القرن العشرين، لكن نتائجها ومشعباتها باتت اليوم كارثة تحط على مجتمعات ما بعد التحرر لما جلبه تحرر المنابر الألكتروني الذي لم يبت منبراً للثقافة، إنما نازلة احتلّت منزلة الثقافة فلم تترك للعلماء والمثقفين منزلاً، كما حذّر منه هابرماس (Habermas, 1989, pp. 249-250). مشكلة النوعية الديمقراطية، أو أزمة الديمقراطية، إذاً، ليست مشكلة الأحزاب ولا الطبقة السياسية الرائدة كما نوّه له بابون (Pabón Arieta, 2019, pp. 126-127)، إنما هي مشكلة الجماهير وجهلها الإرادي، هي مشكلة الثقافة السطحية والتجويف التعليمي. النتيجة ليست غريبة بأن يرتقي مُهَرِّج تلفزيني فُكاهي رئاسة الجمهورية في أوكرانيا، ولا في أن يصل مُهرج السهرات التلفازية إلى البيت الأبيض.
المشكلة الآن ليست هذه بالضبط، فهذا الأمر بات يشغل العديد من الزملاء ممن كتب فيه أنهاراً من الحبر، المشكلة الأشوك اليوم باتت في الإعلام غير المهني، الذي تشوشت عليه مفاهيم الحرية فبات يخلط بين الخبر والرأي الشخصي ليفرض الرأي الشخصي مع واقع الخبر. إخوة يوسف ضحايا الذئب، والذئب هو المجرم قيل ما قيل وإن طاح الناس على الذئب وقتلوه، لن يمنحه أحد ولا حتى شهيق نفس ليصرخ بكلمة البراءة، بل وإن خبر قتل الذئب سيتناقله الإعلام كانتصار للعدالة والمدنية.
الحق في عدم الإزعاج لم يبت له اعتبار في الحياة العملية، والّا فجَمّ من له لسان سيصير متهماً، بل بات خرافة من خرافات مختبرات القانون. فالمنابر تتسابق في صب جمّ المسميات بحسب المومى إليه وكيفما يروق لمن يُسمي نفسه صحفياً. الإيماء للنظام التركي والفرنسي ليس له نفس المفهوم، وليس مرادفاً حينما يوما إلى فنزويلا أو كوبا، بل وهيهات من يشير إلى الولايات المتحدة بنفس المرادفة (النظام الأمريكي). بل وأن ثوار مدريد الذين خرجوا على الاحتلال الفرنسي النابوليوني الغاشم كانوا رجال حرية وأبطال التأريخ، ومؤسسوا دستور قادس الإسباني (1812) هم من بذروا جنان الانقلاب الزماني، بينما العراقيون الذين خرجوا للدفاع عن بلادهم ضد الاحتلال الأمريكي وحلفائه ليسوا إلّا متمردين، والفلسطينيون طبعاً ما هم إلا إرهابيون يروعون المستوطنين الآمنين. الفكر ألانطباعي الذي بناه أورتيغا بات سمة من سماة الفكر الغربي، يحتل يوم تلو الآخر مركز الصدارى في شتى مفاهيم الحياة الغربية التي باتت رهينة الإثارة والسطحية في معرفة الآخر لإشباع رغبتها بالشعور بالسمو والريادة.
الحديث هنا فيما نشره موقع الحرة الممول من الكونغرس الأمريكي “لغسل” وتجميل صورة الولايات المتحدة في عيون العرب، حيث نشر مقالاً كتبته المغربية سناء العاجي تحت عنوان «الرحمة، لبنان… والأرانب». المقال يدور أساساً حول رأي نشره موقع أنا سلفي عن الدكتور ياسر برهمي مفاده ما يظهر في الصورة التالية:
ما يتضح من نص ألاستشارة، وجوابها السائل يتردد في تعاطي المال مقابل تعشير أرانبه، وفيما إذا كان هذا النفع صفة من صفات الربى بمبايعة المجهول.
المقال المومى إليه يسخر من فكرة تحريم المعاملة ويخرج بمفردة عبقرية فكرة التوالد بين الأرانب، بل ويسترسل بالجزم في تحريم صغار الأرانب المتناسلين عن هذا التعشير، إلخ من مظاهر ألاسترسال غير الواردة لا في فحوى السؤال ولا في الجواب عليه الذي يقتصر فيما إذا كانت المرابحة على التعشير جائزة أم لا. أي أن التعشير إن كان طوعياً بلا مقابل لم يكن هناك خلاف في الأمر، فالخلاف يدور حول المرابحة على المعاملة لا غير.
المقال المذكور خرج مُترجماً للإسبانية في موقع يسمي نفسه «شؤون جنوب المتوسط msur.es الذي نقله تحت عنوان «الجنس والأرانب». أي أن العنوان أصلاً لا يمت بصلة للأصل، إنما يدور في نقل الصورة على “الفتوى السلفية” التي تُحرِّم لحوم الأرانب المتناسلة عن تعشير غير شرعي، وأن السلفية تدعو إلى التأكُد فيما إذا كان تعشير الحيوانات شرعياً قبل أكل لحومها. أي بمختصر العبارة، الغرض من المقال ليس فقط تهويل الصورة، إنما بشيطنة الإسلام بصورة ساخرة تتمادى في البحث عن العلاقات الجنسية بين الحيوانات ويتدخل في تنظيمها للحكم على حِلَّة لحومها. بل أنه ينتهي بالتساؤل فيما إذا كان هناك صوت في العالم سيجرأ على الحد من هذا النوع من الفتاوى وتخليص البشرية من هذا الدين المتطرف العنيف، أم أن الجميع سيقف ضد رأي كاتب المقال بوصفه رأياً مضاداً للإسلام وداعياً للتسقيط به؟
من يُحاول التمعن في مثل هذه المنابر وصداها في الإعلام الغربي تستجل له جُملة الصورة التي يرى بها الغرب الإسلام اليوم، والموقف الذي تبنته حكومات بعض الدولة كسياسية مُمنهجة للحد من إنتشار العقيدة الإسلامية، بل وهو بعينه ما يُفسِّر تدافع الأفكار، بل وتناحرها الدامي في المجتمعات التي باتت رهينة هذا الفكر. السؤال، ونعود به إلى فكرة هابرماس، من هو المتطرف؟ أوالإرهابي الإعلامي؟ أليس هو الذي احتلَّ صدارة المنابر بتجويف الأفكار وتاجيج الجماهير نافراً مفاهيم الحقيقة، القانون، العقل والمنطق إلى الطرف الآخر ليتقعور أصحابها على أنفسهم في مختبرات وبين مجلدات لا يقرأها إلّا القلة القليلة، بينما تتجحفل الجماهير وراء مُأجج الرأي بالرغم من نفرانه للحقيقة والمنطق؟