This post is also available in: Español (الأسبانية) Italiano (الإيطالية) Français (الفرنسية)
الحديث عن لبنان في العالم العربي حديث ذو إثارة فلبنان رمز التفاح، والأرز، وجمال نسائها، وعُسولة اللسان وما لا نهاية له من المُغريات، أو كما يُسميها المصري “خواجات العرب”. لكن ذِكر إسم لبنان في العالم يكاد له معنى، فالعديد يتصوره أمر تاريخي كالحديث عن روما، مابين النهرين أو ما إلى ذلك من الأمم المنقرضة؛ ربما لصعوبة العثور عليه في الخريطة فحجمه كحجم أندورا، أو َبليز، اللتان يجهل القارئ العربي محلهما كما يجهل الغربي محل لبنان، بل هي أكبر قليلاً من جبل طارق، بالرغم من ذلك، فهي ذاتُ وزنٍ وثقل في موازين التأثير كثُقلِ الكُويت، بل ربما أكثر. ربما ذاك يرجع لسببين رئيسيين لا يتوافقان مع أي مما تقدم. فالأول يتعلق بحجم الجالية اللبنانية المُهجرة على مرار التأريخ في العالم. ففي البرازيل وحدها يوجد أكثر من ثمان ملايين لبناني، بينما في داخل لبنان كلها لا يتجاوز الخمس ملايين. هذا المفاعل يحتل مرتبة الصدارة في الأهمية ليس فقط على الصعيد السكاني، وإنما السياسي والاقتصادي، فحجم التحويل الخارجي للجالية اللبنانية في العالم يناهز ثلث دخل لبنان القومي الخام، ناهيك عن وزن هذه الجالية السياسي في التأثير في بلاد المهجر.
أضف إلى ذلك موقع لبنان الجغرافي، فلبنان لا تقبع بين المطرقة والسندان فحسب، بل وإن هذا المثل قد يكون أمنية صعبة المنال على حال لبنان التعيس. فلبنان يناهز الحدود الطويلة العريضة المنشقة على طول جسده مع سوريا، البلد الأوم الذي إنتزعته منها فرنسا الحبيبة بُغية حماية جمالها، من همجية البدو العرب، ولتحصين الديمقراطية والمستقبل الوادع لأقلياتها المتناحرة، مقابل الخط الساخن للحدود الجنوبية الرازحة تحت الإحتلال الصهيوني، والحماية المُزيّفة لذوي القبعات الزرق.
في أوربا يُضرب المثل ببلجيكا ككونها الدولة التقنية، أي المُفتعلة، فهي الدولة الممثلة بثلاث قوميات مختلفة تماماً عن بعضها، هذا مالح أجاج والأخر عذب فرات؛ بين الفرنس، والهولنديين وقِلّة من الألمان، وما يمثل هذا التغاير العقائدي بين كاثوليس وبروتستانت على التوالي، عِلاوة على التغاير اللغوي المتمثل بكل منها. لكن لبنان ربما مثل هذه المُغايرات لكن بثلاث أضعاف فبين مسلميها، نصاراها, ودروزها فوارق شتى يتناحر كلٌّ منها مع أبناء جلدته ما لا مثيل له على المعمورة. فمسلموا لبنان بين سُنة إقتُطعوا من سوريا وشيعة ولائية لإيران فرق وتناحر يكفي لتجييش قارَّةٍ بأسرها. وبين النصارى اللبنانين يكفي لتناحر قرنٍ من الحملات الصليبية بين مارون، وأرثودوكس ولوقانيين كُلٌّ تلعب الكنيسة الكاثوليكية بعقله ضد أبناء جلدته وتدفعه بحجة التبشير وتوحيد الصف، ناهيك عن الدور الذي تلعبه الجماعات المختلفة بين اليسوعيين والفرانسيسكيين وثُقلٍ هؤلاء في الهوية والمجتمع اللبناني بحكم الدعم المادي والمُمنهج من أوربا مما لا مجال لحصره.
مثال الهوية اللبنانية لخصّهُ صحفي إسباني سافر للاصطياف في لبنان قبل حقبة من الزمن فكتب مقالاً بعنوان «هاي، سافا، كيفك» لَخّص فيه التوهان الإجتماعي اللبناني حيث يجمع بين ثلاث لغات في عبارة واحدة للتعبير عن مجرد التحية. ففي لبنان أُناس استأصلوا من أصولهم الفكرية، والتأريخية، بل وحتى الزمنية. النظام التعليمي فيه شاهد على ذلك، كل فئة من فئات لبنان بحسب إنتمائها تدرس التأريخ بطريقة هذا يرسم العرب كحضارة وتأريخ وهوية، والأخر يرسم الفرنس منقذ من غطرسة الاستعمار والظلام العربي، والآخر يصف سوريا أُمّا، بينما ذاك يرسمها عدواً لدوداً والرومان هوية وإنتماءاً. في لبنان يوجد ما لا مثيل له في العالم، شعب يستحضر ويتفاخر بإنتمائه الاستعماري، وإرثه المستورد نابذا تأريخه، فكيف أن يمكن أن يسير باتجاه المستقبل من يتفاخر بتأريخ غيره ماسخاً تأريخه وعروقه؟
لا عجب أن تكون لبنان قد غرقت في حرب أهلية لا مثيل لها على إمتداد التأريخ 1976-1990، حرب ككل الحروب، بلا منتصر، لكن بالعديد من المندحرين، وأولهم الوطن اللبناني، ملايين اللاجئين، وجراح لا يكفل الزمن إلتأمها مهما تضاهرت الأجيال بالتغاضي عنها. حربٌ إنهال فيها هؤلاء مع أولائك، والأخرون مع أصحابهم، إنهال فيها الجميع ضد الجميع، النصارى فيما بينهم، والمسلمين الأخرون، وسوريا لم تزد بتدخلها إلا وقوداً وناراً كوقود الغرب للآخرين، وأما الصهاينة فكيف لهم السكوت حتى إنهالوا على صبرا وشاتيلا بمجازر 1982. إمتلئت لبنان دماً حتى لم يبق بياض ولا خَضار إلاّ في علمها المسكين.
مشاكل لبنان تفاقمت إبان عام 1979 الأسود على تأريخ الشرق الأوسط والعالم العربي، إبان إنقلاب الثورة الرافضية في إيران وتوليها مقاليد الأمور، بل وبحادثة السفارة الأمريكية في طهران وإرتهان الدبلوماسيين الأمريكان. فقد إغتصب الفرس شرف الولايات المتحدة ولم يكن غير العرب حتى يتولّوا رد الإعتبار ودفع ثمن نزاع لم يكن لهم فيه لا ناقة ولاجمل. من جانبها إيران ومشروعها الإجتياحي لتصدير الثورة المشؤومة ومصيبة الإسلام الولائي، تحت غطاء الإسلام، وليس لهذه المُهمة خيرٌ من لبنان الخصيب، وطن بلا دولة، شعب بدون قومية، قومية مغتصبة من تأريخها بلا هوية.
إنهال الأمريكان على إيران أولا بالمرصاد العراقي، فزجوه في حربٍ ضارسة ثمان سنين للثأئر للسفارة الأمريكية والضغط لتحرير رهائنهم الدبلوماسيين منذ تشرين الثاني 1979 وحتى كانون الثاني 1981، لم يعرف التأريخ إحتجاز لدبلوماسيين مثله. إبان ذلك لَعِبَ فراغ لبنان دوراً بارعاً في أن تكون سوقاً حُرة للتسلح الإيراني. فبينما دعمت الولايات المتحدة وفرنسا العراق بكل حاجته من السلاح، دعمتا إيران أيضاً بالسلاح الفرنسي عن طريق شركات وهمية أقاموها في إسبانيا، لتوريد سلاح فرنسي تحت أسماء تجارية إسرائيلية مُستعارة وعن طريق حزب اللات اللبناني، النازلة الإيرانية في الجسد العربي. بل ولم يَزُج الغرب العراق وحده في الحرب مع إيران، بل ولبنان في نفس الدوامة، المصير وذات الفَرَس، إيران.
من يُراجع ملفات توريد الأسلحة لمنظمة SIPRI لن يجد تحت إسم حزب اللات إلا بضع التوريدات الرمزية لأسلحة خفيخة طوال القرن العشرين كله، بالرغم من الحجم اللامثيل له الذي يمتلكه هذا الكيان المضاهي اليوم لأي جيش نظامي في المنطقة، بل وبمراتب وأصناف عسكرية نظامية. نتيجة هذه الدوامة يُلخِصُها حديث أيَّ لبنانيٍ مسكين بأن وقع الإنفجارات في لبنان لم تُبق لخرير البحر المتوسط ولا لصوت نوارسه من أثر في الأذهان.
الكارثة اللبنانية لا نهاية لها، كما لابداية، فمن يجهل تأريخه كيف له أن يصوغ مفهوم يسيرُ عليه؟ فناهيك عن حروبها ودوامتها الداخلية وتطاير لاجئيها، طفرت لبنان من مُصدِّر للاجئين لأن تكون مقصدهم. فإبان الأزمة السورية، الوطن الأم، إكتسح السوريين لبنان بما يفوق نصف سكانها. فبحسب تقارير منظمة اللاجئين، يتواجد في لبنان قرابة الثلاث ملايين لاجئ، ناهيك عن غير المسجلين، فالعديد من السوريين يقيم رسمياً في لبنان، بل وحتى من يحمل الجنسية اللبنانية، فما السوري واللبناني إلاّ خال وإبن أُخت ضاع نسبهم في نزاع الإرث الإستعماري. زاد الطين بلّة الإجتياح الأمريكي للعراق، الذي غَوّل إيران على العرب، وكيف لها ذلك إلا وعن طريق ذراعها اللبناني المدسوس في الجسد العربي، فمن لبنان تُصدر الثورة الولائية لتونس والجزائر خصوصاً بحجة مسمار جحا، القضية الفلسطينية. لكن إنهيال العقوبات الأمريكية على إيران لم يُجدِ بنتيجة فلبنان والعراق واحد، حكومة ومنهجاً سياسياً لحساب الولي الفقيه، بينما يحوم الفارس الفرنسي بنفس الوقت مُمنهِجاً إنقسامٍ آخر داخل الصف اللبناني لرعرعة الفكر الرافض للإنتماء التاريخي، وجرِّ بساط الهوية المجتمعية من تحت قوم تاهو في الزمان والمكان، بين إيران وفرنسا والعرق العربي الجريح.
من يعود إلى قصة الخلق في التوراة، والمؤكدة في القرآن عن برج بابل وبلاء الخلق ويحاول تصور الفكرة، عليه النظر إلى لبنان. ليس فقط فيما يعني جماعة البشر التائهة في بقعة متعددة الألسنة، إنما كُلٌّ منها مدفوع برشق الرصاص بدون تمييز ولا توجيه، كبضع فرسان إجتمعوا في غرفة مظلمة للبحث عن قط أسود، متراشقين الرصاص على الطريقة التكساكية. لكن السؤال الجدير بالذكر الآن رصاصة من هذه التي إنهالت على ميناء بيروت مسببة هذا الإنفجار الهائل ليطيح بنصف الدخل القومي اللبناني؟
بل وأن الأزمة ليس بحديثة عهد، ففي آخر ست أشهر غرق الإقتصاد اللبناني بأزمة خانقة، أطاحت بعملته أكثر من 500%، حتى أن آخر محاولة للبنك المركزي اللبناني في أواسط حزيران الماضي بإنقاذ الوضع كانت قد بائت بالفشل. فالإنهيار الإقتصادي منذ الأمس في سقوطٍ حُر، تحت مظلة ركيكة بلا نتيجة ملموسة، واليوم شضايا إنفجار الميناء دمّرت معها المظلة حاكمة على السقوط بالهبوط بلا مظلة، لتمنحها معها شهادة عضوية دائمة في رابطة (شبه)الدول الفاشلة إلى جانب العراق، الصومال وجنوب السودان. لكن بالرغم من إعصار إنفجار ميناء بيروت هناك ناجٍ واحد مازال ينادي، من المسؤول؟ أو بالأحرى من المستفيد ؟
إذا كان لبنان بالأمس تائهاً، فما هو اليوم؟ إذ كان بين أكثر من مطرقة وسندان فما هو اليوم؟ فسُرعان ما أعلن الكيان الصهيوني عن فتح مستشفياته لاستقبال الضحايا، بينما حرّكت روسيا آلياتها للدعم السريع الذي أرهب حلف شمال الأطلسي حيث سارع بإعلان حالة الطوارئ داعياً أعضائه للهرع بإرسال مساعدة إلى لبنان وعدم السماح لروسيا بأن تحتل مركز الصدارة وتضع قدمها في لبنان “الحبيب”، هذا ناهيك عن الماسونية الفرنسية، بطل أوربا المجند الذي هرع لفتح حساب خاص لجمع التبرعات والوقوف إلى جانب لبنان الحبيب. وأما العرب، أبناء الشيمة، فلا يَخفى عليهم الحال، أمُّ الدنيا غارقة بمشاكلها الداخلية حتى إن إعلامها لم يتطّرق إلى الكارثة اللبنانية إلّا في هامش أخباره، وأما الأرْدُنّ الشقيق، فقد أوعز عاهِلّه لوزير خارجيته بالاتصال بنظيره اللبناني للإعراب له عن تضامن الأشقاء الهاشميين، بينما أعلن مشايخ الخليج كامل استعدادهم للوقوف مع لبنان في أزمته، بينما تونس، محدودة الموارد والإمكانات أرسلت طائرة عسكرية محملة بأدوية ومعدات طبية وكوادر دعم. فشيمة العرب لا تتوقف عند التضامن، ولا الإعراب عن الجاهزية، بل وبالاستعداد التام للوقوف على جَنازة من صار يناهز حتى ليتشاهد على نفسه، وسيألونه: تحتاج مساعدة؟ لكن ومن ثم نعود لنسأل ما هي هُوِيَّة لبنان، ومستقبله؟ فاليوم لبنان صار ساحة التكالب والصراع، في قلب الجميع، فأي أمرأة هذه التي تحتل قلوب جميع رجال أوربا بينما يتفرج عليها العرب بعروض الاستعداد بالدعم والمساعدة؟ لكن على ما يبدو، وهو الحق لمن يريد أن يعرفه، المسألة لا بدعم ولا مساعدة تتعلق، إنما بالمسارعة لاقتسام الحصص قدر المستطاع، بينما لا يجني العرب غير حصص المنابر والشعارات.